فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المسألة الثالثة: [في المراد بالعدوة الدنيا والعدوة القصوى]:

المراد بالعدوة الدنيا، ما يلي جانب المدينة، وبالقصوى، ما يلي جانب مكة وكان الماء في العدوة التي نزل بها المشركون، وكان استظهارهم من هذا الوجه أشد {والركب} العير التي خرجوا لها كانت في موضع {أَسْفَلَ مِنكُمْ} إلى ساحر البحر {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ} أنتم وأهل مكة على القتال، لخالف بعضكم بعضًا لقلتكم وكثرتهم {ولكن لّيَقْضِيَ الله أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} أي أنه يثبتكم الله، وينصركم، ليقضي أمرًا كان مفعولًا، واجبًا أن يخرج إلى الفعل وقوله: {لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ} بدل من قوله: {لّيَقْضِيَ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
لا شك أن عسكر الرسول عليه السلام في أول الأمر كانوا في غاية الخوف والضعف بسبب القلة وعدم الأهبة، ونزلوا بعيدين عن الماء، وكانت الأرض التي نزلوا فيها أرضًا رملية تغوص فيها أرجلهم.
وأما الكفار، فكانوا في غاية القوة بسبب الكثرة في العدد، وبسبب حصول الآلات والأدوات، لأنهم كانوا قريبين من الماء، ولأن الأرض التي نزلوا فيها كانت صالحة للمشي، ولأن العير كانوا خلف ظهورهم، وكانوا يتوقعون مجيء المدد من العير إليهم ساعة فساعة، ثم إنه تعالى قلب القصة وعكس القضية، وجعل الغلبة للمسلمين، والدمار على الكافرين فصار ذلك من أعظم المعجزات وأقوى البينات على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، فيما أخبر عن ربه من وعد النصر والفتح والظفر.
فقوله: {لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ} إشارة إلى هذا المعنى، وهو أن الذين هلكوا إنما هلكوا بعد مشاهدة هذه المعجزة، والمؤمنون الذين بقوا في الحياة شاهدوا هذه المعجزة القاهرة، والمراد من البينة هذه المعجزة.
المسألة الثانية:
اللام في قوله: {لّيَقْضِيَ الله أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} وفي قوله: {لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ} لام الغرض، وظاهره يقتضي تعليل أفعال الله وأحكامه بالأغراض والمصالح، إلا أنا نصرف هذا الكلام عن ظاهره بالدلائل العقلية المشهورة.
المسألة الثالثة:
قوله: {لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ} ظاهره يقتضي أنه تعالى أراد من الكل العلم والمعرفة والخير والصلاح، وذلك يقدح في قول أصحابنا: أنه تعالى أراد الكفر من الكافر، لكنا نترك هذا الظاهر بالدلائل المعلومة.
المسألة الرابعة:
قوله: {ويحيى مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ} قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم والبزي عن ابن كثير ونصير عن الكسائي {مِنْ} بإظهار الياءين وأبو عمرو، وابن كثير برواية القواس، وابن عامر وحفص عن عاصم والكسائي بياء مشددة على الإدغام.
فأما الإدغام فللزوم الحركة في الثاني، فجرى مجرى رد لأنه في المصحف مكتوب بياء واحدة.
وأما الإظهار فلامتناع الإدغام في مضارعه من يحيى فجرى على مشاكلته، وأجاز بعض الكوفيين الإدغام في {وَلاَ يحيى}.
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: {وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي يسمع دعاءكم ويعلم حاجتكم وضعفكم، فأصلح مهمكم. اهـ.

.قال السمرقندي:

{إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدنيا} يعني اذكروا هذه النعمة إذ كنتم بالعدوة الدنيا.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو {بِالْعُدْوَةِ} بالكسر، وقرأ الباقون بالضم؛ ومعناهما واحد وهو شفير الوادي.
ويقال عِدْوَةِ الوادي وعُدْوَتِهِ، يعني كنتم على شاطئ الوادي مما يلي المدينة.
{وَهُم بالعدوة القصوى}، يعني من الجانب الآخر مما يلي مكة، {والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ}؛ يعني العير أسفل منكم بثلاثة أميال على شاطئ البحر حين أقبلوا من الشام.
{وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ}، يعني ولو تواعدتم أنتم والمشركون بالإجماع للقتال، {لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد} أنتم والمشركون، {ولكن} جمع الله بينكم على غير ميعاد، {لّيَقْضِيَ الله أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}؛ يعني كائنًا وكان من قضائه هزيمة الكفار ونصرة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
قوله تعالى: {لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ}.
أي ليكفر من أراد الكفر بعد البيان له من الله تعالى، {ويحيى مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ}، يقول: ويؤمن من أراد أن يؤمن بعد البيان له من الله تعالى.
وقال الكلبي: ليهلك من هلك على الكفر بعد البيان، ويحيى من حي بالإيمان عن بينة ويقال: هذا، وعيد من الله تعالى لأهل مكة يقول: ليقم على كفره من أراد أن يقيم بعد ما بينت له الحق ببدر، حين فرقت الحق من الباطل، ويحيى يعني يقم على الإيمان من أراد أن يقيم بعد ما أرسلت إليه الرسول وأقمت عليه الحجة.
قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر، وابن كثير في رواية شبل البزي {مِنْ} بإظهار الياءين، والباقون بياء واحدة وأصله بياءين، إلا أن أحد الحرفين أدغم في الآخر، لأنهما من جنس واحد.
ثم قال: {بَيّنَةٍ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}. اهـ.

.قال الثعلبي:

{إِذْ أَنتُمْ} يا معشر المسلمين {بِالْعُدْوَةِ الدنيا} شفير الوادي الأدنى إلى المدينة {وَهُم} يعني عدوكم من المشركين {بالعدوة القصوى} من الوادي الأقصى من المدينة {والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ} إلى ساحل البحر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي والمشركين بأسفله والعير قد انهرم به أبو سفيان على الساحل حتّى قدم مكّة.
وفي العدوة قراءتان: كسر العين وهو قراءة أهل مكّة والبصرة.
وضم العين وهو قرأ الباقين واختيار أبي عبيد وأبي حاتم، وهما لغتان مشهورتان كالكُسوة والكَسوة. والرُشوة والرَشوة. وينشد بيت الراعي:
وعينان حمر مآقيهما ** كما نظر العِدوة الجؤذر

بكسر العين.
وينشد بيت أوس بن حجر:
وفارس لو تحل الخيل عُدوته ** ولّوا سراعًا وما همّوا بإقبال

بالضم.
والدنيا تأنيث الأدنى، والقصوى تأنيث الأقصى.
وكان المسلمون خرجوا ليأخذوا العير وخرج الكفار ليمنعوها فالتقوا من غير ميعاد قال الله: {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد} لقلّلكم وكثرة عدوكم {ولكن لِّيَقْضِيَ الله أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} من نصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه {لِّيَهْلِكَ} هذه اللام مكررة على اللام في قوله: {لِّيَقْضِيَ الله أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} ويهلك {مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ} أي ليموت مَنْ يموت على بينة ولَهًا وعِبْرةً عاينها وحجّة قامت عليه، وكذلك حياة من يحيى لوعده {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
وقال محمد بن إسحاق: ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه وقطعت معذرته ويؤمن من آمن على مثواك.
وقال قتادة: ليضل من ضل عن بينة ويهتدي من اهتدى على بيّنة.
وقال عطاء: ليهلك من هلك عن بينة عن علم بما دخل فيه من الفجور {ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} عن علم ويقين بلا إله إلاّ الله. وفي (حي) قولان، قرأ أهل المدينة: (حيي) بيائين مثل خشيي على الإيمان، وقرأ الباقون (حيّ) بياء واحدة مشددة على الإدغام، لأنّه في الكتاب بياء واحدة {وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} يعني شفير الوادي ببدر، الأدنى إلى المدينة.
{وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} يعني شفير الوادي الأقصى إلى مكة.
وقال الأخفش: عدوه الوادي هو ملطاط شفيره الذي هو أعلى من أسفله، وأسفل من أعل. اهـ.
{وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ} يعني عير أبي سفيان أسفل الوادي، قال الكلبي: على شاطئ البحر بثلاثة أميال.
{وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلْفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: ولو تواعدتم أن تتفقوا مجتمعين لاختلفتم في الميعاد، بالتقديم والتأخير والزيادة والنقصان من غير قصد لذلك.
والثاني: ولو تواعدتم ثم بلغكم كثرة عدوكم مع قلة عددكم لتأخرتم فنقضتم الميعاد، قاله ابن إٍسحاق.
والثالث: ولو تواعدتم ثم بلغكم كثرة عدوكم من غير معونة الله لكم لأخلفتم بالقواطع والعوائق في الميعاد.
قوله عز وجل: {... لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} فيه وجهان:
أحدهما: ليقتل ببدر من قتل من مشركي قريش عن حجة، وليبقى من بقي عن قدرة.
والثاني: ليكفر من قريش من كفر بعد الحجة ببيان ما وعدوا، ويؤمن من آمن بعد العلم بصحة إيمانهم. اهـ.

.قال ابن عطية:

{إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}
العامل في {إذ} قوله: {التقى} و{العدوة} شفير الوادي وحرفه الذي يتعذر المشي فيه بمنزلة رحا البير لأنها عدت ما في الوادي من ماء ونحوه أن يتجاوز الوادي أي منعته، ومنه قول الشاعر:
عدتني عن زيارتك العوادي ** وحالت دونها حرب زبون

ولأنها ما عدا الوادي أي جاوزه، وتسمى الضفة والفضاء المساير للوادي عدوة للمجاورة، وهذه هي العدوة التي في الآية، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي {بالعُدوة} بضم العين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {بالعِدوة} بكسر العين، وهما لغتان، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وقتادة وعمرو {بالعَدوة} بفتح العين، ويمكن أن تكون تسمية بالمصدر، قال أبو الفتح: الذي في هذا أنها لغة ثالثة كقولهم في اللبن رَغوة ورِغوة ورُغوة، وروى الكسائي: كلمته بحضرة فلان وحضرته إلى سائر نظائر، ذكر أبو الفتح كثيرًا منها، وقوله: {الدنيا} و{القصوى} إنما بالإضافة إلى المدينة، وفي حرف ابن مسعود {إذا أنتم بالعدوة العليا وهم بالعدوة السفلى}، ووادي بدر آخذ بين الشرق والقبلة منحرف إلى البحر الذي هو قريب من ذلك الصقع، والمدينة من الوادي من موضع الوقعة منه في الشرق وبينهما مرحلتان، حدثني أبي بأنه رأى هذه المواضع على ما وصفت وقال ابن عباس: بدر بين مكة والمدينة، و{الدنيا} من الدنو، و{القصوى} من القصو، وهو البعد، وكان القياس أن تكون القصيا لكنه من الشاذ، وقال الخليل في العين: شذت لفظتان وهما القصوى والفتوى، وكان القياس فيهما بالياء كالدنيا والعليا، و{الركب} بإجماع من المفسرين غير أبي سفيان، ولا يقال ركب إلا لركاب الإبل وهو من أسماء الجمع، وقد يجمع راكب عليه كصاحب وصحب وتاجر وتجر، ولا يقال ركب لما كثر جدًا من الجموع.
وقال القتبي: الركب الشعرة ونحوها، وهذا غير جيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قد قال: «والثلاثة ركب» الحديث وقوله: {أسفل} في موضع خفض تقديره في مكان أسفل كذا قال سيبويه، قال أبو حاتم: نصب {أسفلَ} على الظرف ويجوز {الركب أسفل} على معنى وموضع الركب أسفل أو الركب مستقرًا أسفل.
قال القاضي أبو محمد: وكان الركب ومدبر أمره أبو سفيان بن حرب قد نكب عن بدر حين نذر بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ سيف البحر فهو أسفل بالإضافة إلى أعلى الوادي من حيث يأتي، وقال مجاهد في كتاب الطبري: أقبل أبو سفيان وأصحابه من الشام تجارًا لم يشعروا بأصحاب بدر ولم يشعر أصحاب محمد بكفار قريش ولا كفار قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى التقوا على ماء بدر من يسقي لهم كلهم، فاقتتلو فغلبتهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأسروهم.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا تعقب، وكان من هذه الفرق شعور يبين من الوقوف على القصة بكمالها، وقوله: {ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد} قال الطبري وغيره: لو تواعدتم على الاجتماع ثم علمتم كثرتهم وقلتكم لخالفتم ولم تجتمعوا معهم، وقال المهدوي: المعنى أي لاختلفتم بالقواطع والعوارض القاطعة بين الناس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا نيل واضح، وإيضاحة أن المقصد من الآية نعمة الله وقدرته في قصة بدر وتيسيره ما يسر من ذلك، فالمعنى إذ هيأ الله لكم هذه الجمال ولو تواعدتم لها لاختلفتم إلا مع تيسير الذي تمم ذلك، وهذا كما تقول لصاحبك في أمر سناه الله دون تعب كثير: ولو بنينا على هذا وسعينا فيه لم يتم هكذا، ثم بين تعالى أن ذلك إنما كان بلطف الله عز وجل: {ليقضي أمرًا} أي لينفذ ويظهر أمرًا قد قدره في الأول {مفعولًا} لكم بشرط وجودكم في وقت وجودكم، وذلك كله معدوم عنده، وقوله تعالى: {ليهلك من هلك عن بينة} الآية، قال الطبري: المعنى ليقتل من قتل من كفار قريش وغيرهم ببيان من الله وإعذار بالرسالة، {ويحي} أيضًا ويعيش من عاش عن بيان منه أيضًا وإعذار لا حجة لأحد عليه فالهلاك والحياة على هذا التأويل حقيقتان وقال ابن إسحاق وغيره: معنى {ليهلك} أي ليكفر {ويحيى} أي ليؤمن فالحياة والهلاك على هذا مستعارتان والمعنى أن الله تعالى جعل قصة بدر عبرة وآية ليؤمن من آمن عن وضوح وبيان ويكفر أيضًا من كفر عن مثل ذلك، وقرأ الناس {ليهلِك} بكسر اللام الثانية وقرأ الأعمش {ليهلَك} بفتح اللام، ورواها عصمة عن أبي بكر عن عاصم، والبينة صفة أي عن قضية بينة، واللام الأولى في قوله: {ليهلك} رد على اللام في قوله: {ليقضي}.